فصل: تفسير الآيات (144- 147):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (142- 143):

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (143)}
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي يعاملونه معاملة المخادعين وهو خادعهم، أي: مجازيهم على خِداعهم وذلك أنهم يعطون نورًا يوم القيامة كما للمؤمنين، فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط، ويُطفأ نورُ المنافقين، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ} يعني: المنافقين {قَامُوا كُسَالَى} أي: متثاقلين لا يُريدون بها الله فإن رآهم أحد صلوا وإلا انصرفُوا فلا يُصلون، {يُرَاءُونَ النَّاسَ} أي: يفعلون ذلك مراءاةً للناس لا اتّباعًا لأمر الله، {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن: إنما قال ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعة، ولو أرادوا بذلك القليلَ وجهَ الله تعالى لكان كثيرًا، وقال قتادة: إنما قلّ ذكرُ المنافقين لأن الله تعالى لم يقبله، وكلُّ ما قَبِلَ الله فهو كثير.
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} أي: مترددين متحيرّين بين الكفر والإيمان، {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} أي: ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمؤمنين، وليسوا من الكفار فيُؤخذ منهم ما يُؤخذ من الكفار، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} أي: طريقًا إلى الهُدى.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، قال أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا محمد بن المثنى، أنا عبد الوهاب، يعني الثقفي أنا عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرّة وإلى هذه مرّة».

.تفسير الآيات (144- 147):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار، وقال: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أي حجة بينةً في عذابكم، ثم ذكر منازل المنافقين، فقال جلّ ذكره: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} قرأ أهل الكوفة {فِي الدَّرْكِ} بسكون الراء والباقون بفتحها وهما لغتان كالظّعْن والظعَن والنّهْر والنّهَر، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: {فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ} في توابيت من حديد مقفلة في النار، وقال أبو هريرة: بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم، {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} مانعًا من العذاب.
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا} مِنَ النفاق وآمنوا {وَأَصْلَحُوا} عملهم {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} وثقوا بالله {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} أراد الإخلاص بالقلب، لأن النفاق كفر القلب، فَزَوالهُ يكون بإخلاص القلب، {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} قال الفراء: من المؤمنين، {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} في الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا} يعني: الجنّة، وحُذفتِ الياء مِنْ {يُؤْتِ اللَّه} في الخط لسقوطها في اللفظ، وسقوطها في اللفظ لسكون اللام في {الله}.
قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ} أي: إن شكرتم نعماءَهُ {وَآمَنْتُمْ} به، فيه تقديم وتأخير، تقديره: إن آمنتم وشكرتم، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان، وهذا استفهام بمعنى التقرير، معناه: إنه لا يعذب المؤمن الشاكر، فإن تعذيبه عبادَهُ لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا يُنْقِصُ من سلطانه، والشكرُ: ضد الكفر والكفر ستر النعمة، والشكر: إظهارُها، {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} فالشكر من الله تعالى هو الرضى بالقليل من عباده وإضعاف الثواب عليه، والشكر من العبد: الطاعة، ومن الله: الثواب.

.تفسير الآيات (148- 149):

{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}
قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِم} يعني: لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعو عليه، قال الله تعالى: {وَلَمَنْ انتصرَ بعد ظلمه فأولئك ما عليهم مِنْ سَبيل} [الشورى- 41]، قال الحسن: دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعني عليه اللهم استخرجْ حقي منه، وقيل: إن شُتِم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه.
أخبرنا أبو عبد الله الخرقي، أنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يَعْتَدِ المظلوم».
وقال مجاهد هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صُنع به. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل، أنا قتيبة بن سعيد، أنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، أنه قال: قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يُقرُوْنَنَا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ نزلتم بقوم فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذُوا منهم حقَّ الضيف الذي ينبغي لهم».
وقرأ الضحاك بن مزاحم وزيد بن أسلم: {إِلا مَنْ ظَلَمَ} بفتح الظاء واللام، معناه: لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول، وقيل معناه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن يجهر من ظلم، والقراءة الأولى هي المعروفة، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} لدعاء المظلوم، {عَلِيمًا} بعقاب الظالم.
قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} يعني: حسنةً فيعملُ بها كُتِبتْ له عشرًا، وإنْ همَّ بها ولم يعملْها كِتُبَتْ له حسنةٌ واحدة، وهو قوله: {أَوْ تُخْفُوهُ} وقيل المراد من الخير: المال، يُريدُ: إنْ تُبدوا صدقةً تُعطونها جهرًا أو تخفوها فتعطوها سرًا، {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} أي: عن مَظْلَمةٍ، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} أولى بالتجاوز عنكم يوم القيامة.

.تفسير الآيات (150- 153):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)}
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الآية، نزلت في اليهود، وذلك أنهم آمنوا بموسى عليه السلام والتوراة وعزير، وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن، {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} أي: دينًا بين اليهودية والإسلام ومذهبًا يذهبون إليه.
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} حقق كفرهم ليعلم أن الكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} كُلِهَّم {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني: بين الرُّسل وهم المؤمنون، يقولون: لا نُفَرِّق بين أحدٍ من رسله، {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} بإيمانهم بالله وكتبه ورسله، قرأ حفص عن عاصم {يُؤْتِيهِمْ} بالياء، أي: {يؤتيهم الله}، والباقون بالنون {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية، وذلك أنّ كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ كنتَ نبيًا فأتنا بكتاب جملةً من السماء، كما أتى به موسى عليه السلام، فأنزل الله عليه: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ}.
وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكّم واقتراح، لا سؤال انقياد، والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد. قوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي: أعظم من ذلك، يعني: السبعين الذي خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل، {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} أي: عيانًا، قال أبو عُبيدة: معناه قالوا جهرة أرنا الله، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} يعني إلهًا، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} ولم نستأصلهم، قيل: هذا استدعاء إلى التوبة، معناه: أن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم حتى نعفوَ عنكم، {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} أي: حجةً بينةً من المعجزات، وهي الآيات التسع.

.تفسير الآيات (154- 157):

{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)}
قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} قرأ أهل المدينة بتشديد الدال وفتح العين نافع برواية ورش ويجزمها الآخرون، ومعناه: لا تعتدوا ولا تظلموا باصطياد الحيتان فيه، {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}.
قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} أي: فبنقضهم، وما صلة كقوله تعالى: {فبما رحمة من الله} [آل عمران- 159]، ونحوها، {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} أي: ختم عليها، {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} يعني: ممن كذّب الرُّسلَ لا ممن طبعَ على قلبه، لأنّ من طَبعَ الله على قلبه لا يُؤمن أبدًا، وأراد بالقليل: عبدَ الله بن سلام وأصحابهَ، وقيل: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرًا.
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} حين رموها بالزنا.
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}.
وذلك أن الله تعالى ألقى شَبَه عيسى عليه السلام على الذي دلّ اليهودَ عليه، وقيل: إنهم حبسوا عيسى عليه السلام في بيت وجعلوا عليه رقيبًا فألقىَ الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على الرقيب فقتلوه، وقيل غير ذلك، كما ذكرنا في سورة آل عمران.
قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} في قتله، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي: في قتله، قال الكلبي: اختلافهم فيه هو أن اليهود قالتْ نحن قتلناه، وقالتْ طائفة من النصارى نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله إلى السماء، ونحن ننظر إليه، وقيل: كان الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى عليه السلام على وجه صطيافوس ولم يلقه على جسده، فاختلفوا فيه فقال بعضهم قتلنا عيسى، فإن الوجه وجه عيسى عليه السلام وقال بعضهم لم نقتله لأن جسده ليس جسد عيسى عليه السلام، فاختلفوا. قال السدي: اختلافهم من حيث أنَّهم قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حقيقة أنه قتل أو لم يُقتل، {إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} لكنهم يتبعون الظن في قتله. قال الله جل جلاله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} أي: {ما قتلوا عيسى يقينا}.

.تفسير الآيات (158- 159):

{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقيل قوله: {يقينا} ترجع إلى ما بعده وقوله: {وما قتلوه} كلام تام تقديره: بل رفعه الله إليه يقينًا، والهاء في {ما قتلوه} كناية عن عيسى عليه السلام، وقال الفراء رحمه الله: معناه وما قتلوا الذي ظنوا أنه عيسى يقينًا، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه: ما قتلوا ظنهم يقينًا، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} منيعا بالنقمة من اليهود، {حَكِيمًا} حكم باللعنة والغضب عليهم، فسلّط عليهم ضيطوس بن اسبسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة.
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: وما من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى عليه السلام، هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم، وقوله: {قبل موته} اختلفوا في هذه الكناية: فقال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي: إنها كناية عن الكتابي، ومعناه: وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمننّ بعيسى عليه السلام قبل موته، إذا وقع في البأس حين لا ينفعه إيمانهُ سواء احترق أو غرق أو تردّى في بئر أو سقط عليه جدارٌ أو أكله سبعٌ أو مات فجأةً، وهذه رواية عن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهم. قال: فقيل لابن عباس رضي الله عنهما: أرأيت إن خر من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء قال: فقيل أرأيت إن ضرب عُنقُ أحدهم؟ قال: يتلجلج به لسانه.
وذهب قومٌ إلى أن الهاء في {موته} كناية عن عيسى عليه السلام، معناه: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة، ملة الإسلام.
وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُوشك أنْ ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حكمًا عدلا يكسر الصّليبَ، ويقتلُ الخنزيرَ، ويضع الجزية، ويفيضُ المالُ حتى لا يقبله أحدُ، ويهلك في زمانه الملل كلَّها إلا الإسلام، ويقتلُ الدجالَ فيمكثُ في الأرض أربعين سنة ثم يتوفَّى ويُصلي عليه المسلمون»، وقال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قبل موت عيسى بن مريم، ثم يُعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.
وروي عن عكرمة: أن الهاء في قوله: {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هي راجعة إلى الله عز وجل يقول: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن بالله عز وجل، قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانهُ.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} يعني: عيسى عليه السلام، {عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أنّه قد بلّغهم رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبرا عنه {وكنتُ عليهم شهيدًا ما دمتُ فيهم} [المائدة- 117] وكل نبي شاهد على أمته قال الله تعالى: {فكيفَ إذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمّةٍ بشهيدٍ وجِئْنَا بِكَ على هؤلاءِ شهيدًا} [النساء- 41].